فلسفة الرد و الترفع
"إذا ركلني حمار، أفأقاضيه؟ أم أبادله
الركل؟" – سقراط
يبدو هذا التساؤل، للوهلة الأولى، دعابة ساخرة أو
حكمة ملغومة بالسخرية، لكن سقراط، كعادته، لا يلقي بالكلمات عبثًا.
ففي هذه العبارة القصيرة، يكمن عمق فلسفيّ يتجاوز ظاهر العبارة، ويطرح
علينا سؤالاً جوهريًا في التعامل مع الإساءة، والسفه، والجدل العقيم: هل
تستحق كل إساءة ردًا؟ وهل يُنتظر من العاقل أن يهبط إلى مستوى الجاهل ليحاوره أو
يرد عليه؟
يعلّمنا هذا السؤال أن الرد ليس دائمًا دليلاً
على القوة، كما أن الصمت لا يعني بالضرورة الضعف.
الانتقائية المعرفية والسلوكية هنا
تصبح ضرورة وليست ترفًا؛ أن تختار معاركك، وتختار من يستحق وقتك وجهدك وطاقتك، ومن
لا يستحق إلا أن يُترك لصخبه.
فكم من جدالٍ كان الظن أنه نقاش عقلاء، فإذا به
ينقلب إلى مستنقع من الضجيج، والإهانات، والتشويه المتعمد.
وكم من محاولة "توضيح" انزلقت إلى مهاترات، لا لخلل في
الحجة، بل لأن المتلقي لم يكن يبحث عن فهم، بل عن انتصارٍ زائف، أو إثبات ذاتٍ هشة.
إن الارتفاع بالصوت لا يُقوّي الحجة، بل يكشف
غالبًا عن توتر داخلي وقلق وجودي. فالحجة القوية
لا تحتاج إلى صراخ، بل إلى وضوح. أما الصراخ، فهو سلاح العاجز الذي يعجز عن إقناع
العقل، فيلجأ إلى إرهاب الأذن.
الصمت، إذًا، ليس استسلامًا كما
يتوهم السطحيون، بل هو تعبير راقٍ عن الوعي.
الصمت قرار.
الصمت حكمة.
الصمت أحيانًا أعلى صوتًا من ألف كلمة.
حين تصادف من يُصِرّ على إسقاطك إلى مستواه، على
استفزازك، على جرّك إلى ميدان صراعه – فإن أرقى ردٍ يمكن أن تقدمه هو أن لا ترد. أن تظل
واقفًا في سكونك، ثابتًا في اتزانك، غير معنيّ بإثبات نفسك أمام من لا يفهم إلا
العنف اللفظي أو الجدال العدمي.
"عندما ينحدر النقاش إلى مستويات الضجيج والإهانة،
يصبح التجاهل هو أرقى أشكال الرد."
— مقولة مأثورة
فالتجاهل هنا لا يعني الجبن، بل الوعي بالمعركة
وأطرافها. ليس كل خلاف فكري جدير بالطرح، وليس كل انتقاد يستحق الرد.
الكرامة لا تُسترد بالرد العنيف، بل بالاتزان، والسمو،
والقدرة على رؤية الأمور من علٍ.
في عالمٍ يضج بالصراخ، ووسائل تواصل اجتماعي
تتغذى على الجدل والصدام، يصبح السكوت مقاومة.
وفي بيئة تقيّم الناس بعدد تغريداتهم وردودهم وصراعاتهم، يصبح الانسحاب
فنًا نادرًا لا يتقنه إلا الحكماء.
إن كثيرًا من الناس يخوضون معارك لا لشيء، إلا
لأنهم لا يعرفون قيمة السلام الداخلي.
يجرّون أنفسهم إلى نقاشات فارغة، يتعبون أرواحهم، ويستهلكون أعمارهم
في ردود لا تبني، بل تُنهك.
القوة الحقيقية ليست في الصوت
المرتفع، بل في القدرة على الترفع.
في أن تدرك أن الرد أحيانًا يعطي للإساءة حجمًا لا تستحقه. وأن الجاهل
حين لا يجد من يرد عليه، يصمت، أو يكشف نفسه بنفسه.
"الجاهل يظن الصمت ضعفًا، والحكيم يراه نُبلًا."
— تأملات فلسفية
فاختر صمتك بذكاء، واختر معاركك بحكمة، ولا تمنح
الجاهل شرف الرد.
واعلم أن أعظم انتقام قد يكون أن تواصل ارتقاءك في صمت، بينما
يتآكل الآخرون في صخبهم.
ليس كل ركلة تستوجب ركلة.
وليس كل إساءة تستحق التفاتة.
في كثير من الأحيان، السكوت يربح، والصمت ينتصر، لا لأننا لا
نقدر على الرد، بل لأننا نسمو عليه.