الإنسان بين المظهر والجوهر: رحلة في أعماق الذات والهوية

 


الإنسان يعيش في حالة دائمة من التوتر بين المظهر والجوهر، بين الصورة التي يظهرها للآخرين والواقع الداخلي العميق الذي يخبئه. لكن هذا التوتر ليس مجرد انقسام بسيط، بل هو الشرط الوجودي الذي تولد منه هويتنا. فالمظهر ليس مجرد قشرة سطحية، بل هو أول لقاء للإنسان مع العالم، وهو المسرح الذي يؤدي عليه دوره، والوسيلة التي عبرها يتفاعل مع محيطه الاجتماعي. أما الجوهر فهو ذلك المحيط الباطني الشاسع، الذي يحتوي على مشاعر، أفكار، ونزعات قد تظل طي الكتمان، أحيانًا لشدة تعقيدها أو لصعوبة التعبير عنها في عالم يسوده الحكم السريع على الظواهر.

هذه المعضلة قديمة قدم الفلسفة نفسها. نجد جذورها الأولى في "كهف أفلاطون"، تلك الاستعارة الخالدة التي تصور البشرية كسجناء مقيدين في كهف، لا يرون من العالم سوى ظلالٍ ترتسم على الجدار أمامهم. هذه الظلال هي "المظهر"، هي الواقع الظاهري الذي نألفه. أما الحقيقة، "الجوهر"، فهي الأشكال الحقيقية الموجودة خارج الكهف تحت ضوء الشمس، والتي لا يدركها إلا الفيلسوف الذي يجرؤ على كسر قيوده والخروج إلى النور. منذ أفلاطون، والإنسان مسكون بهاجس أن حياته قد تكون مجرد رقصة ظلال، وأن حقيقته تكمن في مكان آخر.

الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، حاول أن يجد مرساة اليقين داخل الذات، فطرح فكرة "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، مؤكدًا على الجوهر العقلي للفرد، أي الوعي بالذات كجوهر الإنسان الأساسي. لكن هذا الوعي الداخلي، هذا اليقين المنعزل، لا يكفي لإبراز الإنسان أمام العالم، حيث يصبح المظهر أداة لتوصيل هذا الجوهر أو إخفائه. المظهر، في كثير من الأحيان، قد يكون لغة التواصل التي يفهمها الآخرون، لكنها قد تتحول إلى حاجز يحجب الحقيقة. وهنا، يكمل إيمانويل كانط المشهد بتفريقه المعرفي الدقيق بين "الظواهر" (Phenomena) التي نعرفها عبر الحواس، و"الأشياء في ذاتها" (Noumena) التي تبقى غير مدركة بشكل كامل. هذا يضع الإنسان أمام تحدٍ معرفي وجودي؛ فهو لا يعرف جوهر الآخرين أو حتى جوهره الحقيقي بشكل مطلق، بل يتعامل مع صور ومظاهر قد تكون مضللة أو ناقصة. نحن محكومون بعالم الظواهر، ويبقى الجوهر غاية منشودة، شيئًا نشعر به ونؤمن به، لكن لا نستطيع الإمساك به بالكامل.

هذا الانقسام ليس مجرد فكرة فلسفية، بل هو بنية أساسية في النفس البشرية. يرى سيغموند فرويد أن "الأنا" (Ego) تعيش في صراع دائم، فهي تحاول التوفيق بين رغبات "الهو" (Id) البدائية والعميقة (جزء أصيل من الجوهر)، وبين أوامر "الأنا الأعلى" (Superego) التي تمثل القواعد الاجتماعية المكتسبة (التي تملي علينا المظهر اللائق). حياتنا النفسية كلها هي محاولة لإدارة هذا الصراع بين ما نريده حقًا وما يجب أن نظهره. بل يذهب جاك لاكان إلى أبعد من ذلك، فيرى في "مرحلة المرآة" أن إدراكنا الأول لـ "الأنا" يأتي من خلال رؤية صورتنا في المرآة كشكل خارجي متكامل. أي أن هويتنا منذ البداية تتأسس على مظهر، على صورة خارجية "مستلبة"، مما يجعل الانفصال بين الذات وصورتها شرطًا أصليًا للوجود الإنساني.

وفي مواجهة هذا الحتمية الاجتماعية والنفسية، يبرز صوت فريدريك نيتشه كثورة على المظاهر المفروضة. بالنسبة لنيتشه، الأخلاق السائدة وقواعد المجتمع ما هي إلا "أخلاق قطيع" تهدف إلى تدجين الفرد وكبح جماح جوهره الأصيل، أي "إرادة القوة". الإنسان الأسمى (Übermensch) هو ذاك الذي يتجاوز هذه المظاهر المفروضة، ويخلق قيمه الخاصة، ويجعل من حياته عملًا فنيًا يعبر عن جوهره الفريد دون خوف. وهذا يتناغم مع ما طرحه لاحقًا ميشيل فوكو عن "الذات كأداة للسلطة"، حيث يُستخدم المظهر كوسيلة للسيطرة الاجتماعية. فالمجتمعات تفرض على الأفراد مظهرًا معينًا يتناسب مع القواعد السائدة، مما يجعل المظهر أحيانًا سجنًا يحجب جوهر الإنسان ويمنعه من التعبير الحر عن ذاته الحقيقية. ومن هنا، ينشأ صراع بين ما يريده الإنسان حقًا وما يفرضه عليه المجتمع.

على صعيد الأدب، نجد في أعمال دوستويفسكي مثل "الأخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب" تصويرًا عميقًا لصراع الإنسان مع ذاته، بين المظهر الذي يعرضه على العالم والجوهر الذي يختبره في أعماقه. شخصياته تعيش في حمى داخلية، ومونولوجاتها الطويلة ليست إلا محاولة يائسة لرأب الصدع بين أفعالها الظاهرة ودوافعها الباطنة المعقدة، مما يطرح أسئلة وجودية عن الهوية والصدق مع الذات.

وفي المجتمع الحديث، لا يبرز هذا التوتر فقط، بل يتضخم إلى مستويات غير مسبوقة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. هنا ندخل عالم جان بودريار، عالم "المحاكاة" (Simulacra)، حيث لم يعد المظهر مجرد قناع يخفي الجوهر، بل أصبح "واقعًا فائقًا" (Hyperreality) يحل محل الواقع الأصلي. الصورة المثالية المصنوعة عبر الفلاتر والتعديلات لم تعد تخفي حقيقة ما، بل أصبحت هي الحقيقة الوحيدة المتداولة. لقد انتقلنا من إخفاء الجوهر إلى إلغائه تمامًا، واستبداله بسلسلة لا نهائية من المظاهر التي لا تشير إلى أي شيء أعمق منها. وهذا يدفعنا للتساؤل: هل أصبح الإنسان عبدًا لصورة زائفة لم تعد تحجب حقيقته، بل حلت محلها؟

الختام لا يمكن أن يكون إلا بأن الإنسان كائن متناقض، يتنقل بين عالمين: عالم الظاهر وعالم الباطن. إن فهم هذا التوتر والوعي به هو نقطة الانطلاق نحو حياة أكثر صدقًا وأصالة. ربما لا تكمن الحكمة في التطابق الكامل بين العالمين، فهذا وهم مستحيل. بل تكمن في أن نصبح فنانين واعين لوجودنا، نستخدم المظهر ليس كسجن يقيّدنا، بل كفرشاة نرسم بها لوحة تلمّح إلى عظمة جوهرنا، دون الادعاء بإمكانية احتوائه في إطار. وفي هذا المسعى، يكمن التحدي الأكبر: أن نكون حقًا مبدعي ما نظهر، وأن نتحرر من عبودية الصورة لنحتفي برقصة الحياة الأبدية بين الظل والنور.

Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url